(الوباء – 10)
سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
تنبيهات على بعض الرسائل المنتشرة في وسائل التواصل زمن الوباء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد :
فقد اطلعتُ على بعض الرسائل التي تنتشـر عبر وسائل التواصل انتشار النار في الهشيم، وقد هالني ما فيها من الأخطاء التي تقتضي التنبيه عليها، وأعلمُ أنَّ ما لم أطلع عليه أكثر وأعظم أخطاءً، وكلّها تنبئُ أنَّ مَن يكتبها وينشرها إما: جاهل، أو مغرض، أو له مآرب سيئة.
ومما يُحتاج أن ينبَّه عليه منها:
1- نسبة محتواها إلى علماء نفس، وأطباء، ونحو ذلك ، وهو كذب، لتنفق في الناس. فما كل ما تقرأ منسوبًا إلى المتخصِّصين ؛ يكون قد قالوه !.
2- نشر الإشاعات الكاذبة ، والأخبار المغلُوطة.
3- التحايل على الناس بإضافة روابط في الرسائل لأمور هي كذب مما تتشوَّف لها النفوس، وفي الحقيقة اتباع الرابط مضر بالجهاز الجوال أو اللاب أو المعلومات أو الرصيد ونحو ذلك، فلينتبه لذلك وليحذر منه.
4- تغليب جانب الأمن من الوباء. مما يحملُ على عدم المبالاة به ، وعدم الاكتراث بالتوجيهات الرسميَّة النافعة في هذا الوقت، ومما يحمل على عدم الاستفادة سلوكيًا وأخلاقيا ودينيا من انتشار الوباء ، فنفقد الثمرة الحقيقية التي ينبغي أن نحصِّلها هذا الزمان من : ترك الزلل ، وإصلاح الخلل . ومعالجة القلوب ومداواتها من عللها وأمراضها. والأخلاق: من انحرافاتها واعوجاجها.
5- تغليب جانب طول الأمل . والتهرّب والتحذير من ذِكْر أو تذكُّر مَن يموت بهذا الوباء. وجعْله : سببًا لمرض الناس وتغيّر مزاجهم واكتآب الناس أو طائفة منهم !! . ونسبة ذلك إلى رأي علماء وأطباء .... الخ . وهذا مِن أَعجب العجب .
(كفى بالموت واعظا) . إنه خير موعظة . وخير تذكرة . وخير زاجر عن القبائح. وخير ما ولَّد التقوى في : القلب . واللين والرِّفق في : المعاملة . والفضيلة في : الخُلق . والكلمةَ الطيبة في : اللسان.
الناس : يمرضون ويموتون . ويُحجرون، ويتوقَّفون عن أعمالهم، وضرورياتهم، ...
وهذا يقول : اترك النظر في هذا ، لا تسمع عن المرضى وكم يمرض من الناس، لا تكترث هل يموت أحد ؟! . اطمأن . أنت بخير. هذا ليس بجيِّد لك . هذا يُضعف نفسيَّتك ، هذا يسبِّب لك القلق، ... الخ
ولا تدري إلا وبعض الناس ، وربما كثير من الناس: (يصدِّق !!) .
ويظنُّ فعلًا وحقيقة: أنَّ ذلك يسبِّبُ له أمراضًا معضِلة، وسيحصُل له اكتآب وحالة نفسية إذا تذكَّر الموت! .
ما هو الموت ؟
هو : لقاء الله تعالى .. هو : الانتقال من دار البلاء والاختبار والأنكاد إلى دار السلام بالنسبة للمؤمن . والانتقال من السجن : إلى سَعة رحمة الله . فأين حديث ( رب أقم السَّاعة ) . وحديث : (قدموني قدموني)
وحديث : ( من أحب لقاء الله ) مع حديث البراء الطويل .
بل ذكر ابنُ حجر في بذل الماعون أنّ عددًا من الصالحين والعلماء تمنّوا أن يصيبهم الطاعون لما نزل بالشام أو العراق ! فأشكل عليهم جلساؤهم بالنهي عن تمني الموت والبلاء ؟ فذكر : أنه على خير و استقامة ، أو نحو هذا الكلام ، وأنه لا يدري لعلَّهُ تعرض له بعدُ فتنةٌ ، فيُختم له بسوء !!. وذكر المسالة هناك .
والحاصل : أنّ الاطلاع على أعداد الموتى ، ومعرفة أنَّ هناك مَن يموت بالوباء وأنَّ هناك مَن يصاب بالوباء: ليس مما يُحذّر منه، بل هو موعظة بليغة مكتملة الأركان ، وكثيرا ما تنجع فيمن لا يفهم إلا لغة الفراق ، وهي نافعة جدًّا لغيرهم أيضًا.
فلماذا التحذير من ذلك ؟! ، بل عسى أنْ يتذكَّر بذلك مَن يتذكَّر ، ويعتبر بذلك مَن يتدبَّر .
لعلَّه ينتفع بها أقوام ، ويُقلعون عن: أكل أموال اليتامى ، وظلم الأرامل ، وأكل الربا ، وشرب الخمور ، ومعاشرة المومسات ، وترك الصلوات ، والمفروضات ، وفعل المنكرات . وظلم المساكين والاستطالة على ممتلكاتهم والتنكيل بهم . لعله بتذكُّر ذلك والنظر فيه : يبرّ عاقّ : لوالديه ، ويُحسنُ : مؤذ لجيرانه ، ويصلُ قاطعٌ : لرحمه ، ويتوب مُدمن رذيلة، ويجدّ : مقصِّر ، ويجتهدُ : كسولٌ !! .
فهل رأيتَ حاديًا مثله !!
6- ومن القواسم المشتركة بين كثير من تلك الرسائل التي تنشر عبر وسائل التواصل : الدعوة إلى الإعراض عن التأمّل في الوباء، وآثاره ، والحكمة منه، والانشغال بملهيات ومتابعة أفلام ومسلسلات، وملئ الفراغ بذلك. بحجّة : الأضرار النفسية التي تلحقُ مَن ينظر في ذلك . وفي هذا دعوة صريحة مبطنة : إلى عدم المبالاة به . وعدم النظر فيه بعين البصيرة . وعدم النظر في الحِكم التي خلقه الله من أجلها ، والتأكيد على ذلك: بجعْل ذلك هو الإيجابية !! وما سواها : سلبيَّة ! وأهلها سلبيين ؛؛ في الناس.
في حين إنَّ تلك الرسائل نفسها : لا تَحملُ أيّ إشارة أو دعوة إلى: التوبة أو الاستغفار أو العناية بالذِّكْر ، أو التدبُّر في الأحداث والأحوال، والتعقُّل لمراد الله تعالى .
وتأكيد الكُتَّاب لتلك الرسائل: بأنَّ ما يجري في العالم كله من الخطب العظيم، (سوف يمرُّ ، وسنكون في أمان !!؟) . ( كن إيجابيًا ) (لا تكن مصدرًا للترويع ) ... إن هذا لشيء عجيب !
وكأن الأمر لا يعنينا .
فأين الدُّعاء . وأين التضرُّع . وأين الاستكانة . وأين التأمُّل والتدبّر .
وأين التوجيه إلى أسباب رفع الوباء والبلاء من الله .
بل أين قوله الله : ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
وكأنهم يقولون : لا عليكم . لا تنزعجُوا . كلها أيـَّام ويذهب الوباء . ونرجع لما كنا فيه لا عليكم اطمأنوا .
فأين قول الله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ . وقوله تعالى : ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّـرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ . وقوله سبحانه : ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ . وقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾.
وأين نحن من حال النبي ﷺ حيث خرج فزعًا إلى الصَّلاة لما حصل الكسوف، وقال كما في الصحيحين : «إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا، يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ، وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ» .
إنْ لم تكن هذه الأيام فرصة جيدة للتذكير بالله ... فلا يوجد وقت لذلك إذن !!
بل نحن في أحسن فرصة : للتذكير بالله تعالى ، والوعظ الحسن ، والكلام الجميل المتضمِّن لبيان سعة رحمة الله وأنه يتوب على التائبين ، ويحبهم ، ويُكرمهم ، فنحن بأمسّ الحاجة : إلى توبة صادقة ، ومحاسبة للنفس على التقصير .
وأما الإرشاد إلى المسلسلات والأغنيات ... في زمان امتلأت فيه المستشفيات ، وعمَّ فيه الوباء أرجاء الأرض فيبدو لي أنه من أغرب الازدواجيات !!
والتستُّر بستار : (كن إيجابيًا) (ستضعف حالتك الذهنية) (لا تنشط الأمراض عليك) (انتبه سيضعف جهازك المناعي) ونحو ذلك من العبارات ؛؛؛ فهذا عند أصحاب النفس والمنطق : من باب دعم الكلام بالارتجال الوصفي (المدح والقدح) وحاصله : أنشِئْ فكرةً وامدحْهَا وذمَّ خلافَها لتدعمها وتقنع القارئ بها . ولكن في الحقيقة هذا : لا يؤثر في الذكي ، ولا يُصدم به البليد !!
لأنَّ الناس لا يقبلُون إلا ما قواهُ الدليل ، ولا يقبلون الكلامَ الارتجالي الخالي من الدلائل والحقائق العلميَّة في أي موضوع فضْلا عن الكلام في الدِّين .
وهذه كلمات ، يتبعها إن شاء الله ، كلمات ، كلما اقتضى التنبيه ، وقَوي العبدُ الضعيف، وفي الناس خير كثير ، ونَصَحةٌ هم أعلمُ وأغْيَر وأفصَح.
وإذ حصَل التنبيه بما سبق . فليُتبع ذلك بنصائح. وقد خصَّصْنا له – بحمد الله - مقالات مستقلَّة. فيها بعض: بيان موقف المسلم في زمن الوباء .
واذكُر هنا سردًا : الوصية بـ: الصبر والاحتساب والإيمان أنه ما كتب الله كائن لا محالة، والتوبة الى الله تعالى ، والإكثار من الاستغفار، وعمارة الأوقات بتلاوة القرآن والذكر بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والصلاة على النبي ﷺ ، ومطالعة وسماع ما ينفع، و المحافظة على الأذكار المقيدة في الصباح والمساء وعند النوم ، و المحافظة على الصلوات المفروضات وكذا الرواتب والنوافل . والعناية بالإحسان إلى المخلوقين والصدقة ومعاهدة الفقراء والمحتاجين. وكثرة الدعاء، والتضـرع إلى الله . والعناية بالأطفال والأهل وإدخال السرور عليهم، وتربيتهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وتعهدهم بما يصلحهم . ونؤكد على العناية بالأطفال عناية شرعية فإنهم أمانة في عنق أوليائهم يُسألون عنها. والتنبيه على النظافة الشخصية وضرورتها، والتأكيد على عدم ترويع المسلم وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك ، وإنزال الناس منازلهم ، وقد ثبت بذلك الأثر . ومن القواعد العلمية : حدثوا الناس بما يفهمون. وما يعقلون وبما تعيها قلوبهم.
وأخصّ بالذكر هنا: بعث الأمل في المسلمين و حسن الظن بالله تعالى ، والتذكير بكرمه سبحانه. وما أحسن ما ذكره الحافظ ابن حجر في آداب مَن وقع في الوباء ، ومما نبه عليه : تحسين الظن بالله
ونص كلامه، قال رحمه الله: «الأدب الثالث : في الترغيب في حسن الظن بالله سبحانه و تعالى. وهو يتأكد في حق من وقع في الأمراض المخوفة . وطريق من وقع له ذلك : أن يستحضِرَ أنه حقير في مخلوقات الله تعالى، وأنَّ رحمةَ الله تسع أمثالَ أمثالِ أمثاله ، وأن الله تعالى غنىٌ عن تعذيبه ويعترف بذنوبه و تقصيره و يعتقد أنه لا ينفعه في الصفح و العفو عنها: عمله ولا شفاعة غيره إن لم يأذن الله تعالى في ذلك ، و يستحضر آيات الرجاء و أحاديثها. قال معتمر بن سليمان : قال لي أبي عند موته : حدثني بالرُّخَصِ لعلي ألقى الله و أنا حسن الظن به.
ويتوجّه بكلِّيته : إلى سؤال ربه أن يختم له بالحسنى و يميته على التوحيد .
ومن أحسن ما ورد في حسن الظن ما ثبت في صحيح البخاري عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك وأنا على عَهْدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أَبُوْءُ لك بذنبي وأَبُوْءُ بنعمتك عليّ فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة . و من قالها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة». انتهى.
قلت: فالمطلوب : طمأنينة من هذا النوع . حُسْن ظنٍّ بالله . لا : أمن من مَكرِه !! . وبينهما بُعد المشرقين.
والله أعلم وأحكم
كتبه:
أبو محمَّد عبدالله بن أحمد بن لمح الخولاني
مكة المكرمة . 10 شعبان عام 1441 هـ